أخبارعاجل

وكيل المدرسة والمكتب المغلق

 

 

*قصة قصيرة بقلم*

*دكتور ناصر الجندي*

 

في مدينة صغيرة، وسط ممرات مدرسة ثانوية تعج بالطلاب والمعلمين، كان مكتب وكيل الإدارة دائمًا مغلقًا. يُدعى السيد “منصور”، رجلٌ كان يثير في النفوس شعورًا غامضًا؛ مزيجًا من الرهبة والغضب. رغم منصبه المهم، لم يكن يراه أحد يعمل على حل مشكلة، بل كان وجوده مصدرًا دائمًا للتوتر.

كان السيد منصور يظهر دائمًا بأسلوبه الغريب؛ يمشي بين الفصول كأنه يفتش عن جريمة لم تقع بعد. يتحدث بصوت منخفض كمن يخطط، وينظر للمعلمين والطلاب بنظرة حادة كأنه يختبر ولاءهم. لكن خلف هذه المظاهر كان هناك شيء أعمق: رجل يحيا على الفوضى، وكأنها الهواء الذي يتنفسه.

 

كان منصور يتفنن في خلق الأزمات. إذا تعاون المعلمون على مشروع ناجح، كان يسرب الشائعات عن وجود خلافات بينهم. وإذا ازدهرت علاقة المعلمين بالطلاب، اختلق شكاوى ضدهم من أولياء الأمور. وعندما تسير الأمور بسلاسة، كان يعقد اجتماعات طويلة بلا هدف، ويشعل الخلافات بين الموظفين.

 

أحد المعلمين، الأستاذ “حسن”، كان الأكثر صبرًا من الجميع. رجل معروف بحكمته ورغبته في الحفاظ على الأجواء الإيجابية. حاول حسن مرارًا أن يفهم سبب تصرفات منصور، لكنه كان دائمًا يصطدم بجدار غامض.

 

“لماذا يصنع المشاكل؟” سأل حسن نفسه يومًا بعد اجتماع فوضوي دعا إليه منصور بلا سبب واضح.

 

لم يجد إجابة، لكنه قرر مراقبة الوضع عن كثب.

 

أحد الأمور المثيرة للفضول بشأن منصور كان مكتبه المغلق دائمًا. لم يكن أحد يجرؤ على الدخول دون إذنه، وكان دائمًا يترك انطباعًا بأن هذا المكان يحمل أسرارًا خطيرة.

 

في أحد الأيام، وبينما كان منصور غائبًا عن المدرسة، تجرأ حسن واقترب من المكتب. وجد الباب مواربًا، ودفعه ببطء. ما رآه داخل المكتب كان صادمًا.

 

المكتب لم يكن مكتبًا إداريًا تقليديًا. كانت الجدران مغطاة بملاحظات صغيرة، خرائط للعلاقات بين المعلمين، وملفات تحوي تفاصيل شخصية عن كل موظف وولي أمر. بدا كأنه غرفة تخطيط لمؤامرة كبرى.

 

في زاوية المكتب، وجد حسن دفترًا يوميًا كتب فيه منصور أفكاره. كانت الكتابات متقطعة، مليئة بجمل غير مكتملة تعكس اضطرابًا نفسيًا عميقًا:

“إذا لم يكن هناك صراع، فماذا سأفعل؟”

“الفوضى تجعلني أسيطر.”

“الهدوء يجعلني أشعر بالفراغ.”

 

حين عاد منصور إلى المدرسة ووجد حسن داخل مكتبه، وقف لبرهة ينظر إليه بلا تعبير. ثم ابتسم ابتسامة باردة وقال:

“الآن تعرف لماذا لا يمكنني ترك الأمور تسير بسلاسة.”

رد حسن بهدوء:

“أنت لا تدير مدرسة، بل تدير صراعاتك الداخلية.”

نظر منصور إليه، وللمرة الأولى بدا عليه الضعف. قال بصوت منخفض:

“إذا توقفت عن إثارة المشاكل، سأختفي. لا أحد سيحتاجني.”

أدرك حسن أن منصور كان يعاني من خوف عميق: خوف من أن يكون غير مهم، أن يصبح مجرد شخص عادي بلا تأثير.

 

لم يُفصح حسن عن ما رآه في المكتب، لكنه بدأ يخطط لتغيير بيئة المدرسة. بدأ بتعزيز الثقة بين المعلمين وتشجيعهم على التعاون بعيدًا عن نفوذ منصور.

 

أما منصور، فقد بقي في منصبه، لكنه بدأ يلاحظ تغيرًا حوله. صراعاته لم تعد تؤتي ثمارها كما كان من قبل. وفي لحظة مواجهة مع نفسه، وجد أنه لا يستطيع الهروب من السؤال الذي لطالما راوده:

“ماذا سأكون إذا توقفت عن إثارة الفوضى؟”

 

القصة تنتهي هنا، لكن الإجابة على سؤال منصور تبقى لغزًا، شأنها شأن طبيعة النفس البشرية التي تحيا أحيانًا في صراعها الخاص، غير قادرة على إيجاد السلام.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى